جمهور رؤوف ماهر كان متحمسا للقائه منذ الإعلان عن برمجته في الدورة السابعة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي، وهو ما يفسر الإقبال القياسي على تذاكره إذ غنى أمام شبابيك مغلقة .. جمهور مختلف عن باقي السهرات، حيث لم يقتصر على فئة عمرية معيّنة، ففي هذه السهرة القرطاجنية رأينا الشباب بحماسهم المفرط وكبار السنّ بهدوئهم والأطفال بتلقائيتهم، سهرة حضرها تونسيون من شمال البلاد الى جنوبها، اضافة الى جزائريين وليبيين وغيرهم من الجنسيات المغاربية والعربية، ولأن جمهوره كان متنوعا ومختلفا، أهداه رؤوف ماهر بداية سهرته موالا خاصا عنوانه " سلامات" الذي تغني فيه بكل ولايات الجمهورية التونسية مرورا بالأشقاء المغاربة والعرب وصولا الى فلسطين.
رؤوف ماهر الذي أطل بالبرنس الجنوبي ( الوزرة) والشاشية التونسية، مسبوقا بفرقته وافرة العدد والتي ارتدى عناصرها أيضا الزي التقليدي الجنوبي، لم يغفل في عرضه عن أدق التفاصيل، حيث تزيّن ركح قرطاج بديكور بدوي انطلاقا من "بيت الشعر" وصولا الى القفة الجربية و"المرقوم"، كما صاحبته طيلة العرض فرق راقصة بملابس تقليدية اشراف "للّا زوينة"، إضافة الى مجموعة إحياء التراث بقصر الخراشفة ببني خداش، دون أن ننسى الكورال المتكوّن من المجموعة الصوتية حرايّر تونس بصفاقس، لوحة فسيفسائية ذات طابع تقليدي محملة بنفحات الجنوب التونسي حاملة إمضاء الفنان أنور الشعافي في الإخراج.
للمرأة وللوطن وللأم وللأخت غنى رؤوف ماهر وتغنّى بـ"الصنديدة" فهزّ صوته القوّي مدارج المسرح الروماني، وعلى امتداد أكثر من ساعتين قدّم باقة من أجمل الأغاني مع حضور ركحي متميز ليبرهن أنه جدير فعلا باعتلاء هذا الركح وبحب الجمهور الذي لم يخذله، حيث غنى معه ورقص بلا توقف وملأت الزغاريد أرجاء المكان احتفاء بابن الصحراء التونسية.
ومن الأغاني التي تفاعل معها الحضور بشكل كبير أغنية "مولات القربة"، قبل أن يلهب رؤوف ماهر حماس الجمهور بأدائه لكوكتيل جربي مصحوبا بلوحات فولكلورية، وبنفس النسق والكاريزما والطاقة الإيجابية انتقل رؤوف ماهر من أغنية الى أخرى بسلاسة وبساطة حيث تميز في أداء أغنية "شطّ السويحل"، وتألق في أغنية "الخطافة" التي ردّدها معه الجمهور متقمصا دور الكورال.
ولأن العرض يحمل عنوان "صنديدة" أهدى رؤوف ماهر هذه الاغنية الى كل التونسيات، ولعل ما زاد في جمال هذه الأغنية اللوحات الراقصة التي رافقتها، والأزياء الموشحة بالعلم التونسي، اضافة الى اعتلاء مجموعة من الفتيات الركح مرتديات لأزياء تعبر عن مهن معينة من الطبيبة الى المحامية وعون الأمن والمعلمة وغيرها من الإختصاصات التي تميزت فيها المرأة التونسية.
وتكريما منه للأم، غنى رؤوف ماهر "الولادة"، واستضاف معه على الركح كاتب كلماتها الشاعر بلقاسم عبهول الذي رافقه في ادائها شعرا فكان ثنائيا متناغما ومنسجما.. مراوحة بين الشعر والغناء لاقت استحسان الحضور الذي حياهما بالتصفيق والهتافات.
ومن المفاجآت التي قدمها رؤوف ماهر في هذه السهرة تكريمه لمجموعة من الفنانين والفنانات الذين رحلوا عن عالمنا، حيث غنى "جوك الخطابة" لمختار الغازولي، و"عزيز على أمه" لفايزة المحرصي، و"الفيزا" للطفي جرمانة، و"غريت بيا" لمنيرة حمدي، و"خاينة" لأشرف، و"عمي الشيفور" و"كرهبة كمال" لفاطمة بوساحة، و"ها الكمون منين" لقاسم كافي، وكلمسة وفاء منه لكل هؤلاء الذين غادرونا عرض رؤوف ماهر صورهم وأسماءهم على شاشة عملاقة، حركة نالت كل الاعجاب والتقدير ولعلها المرة الأولى التي يردّد فيها جمهور قرطاج كلمة "برافو" بكل حماس وتأثر . دون أن ننسى لمسة الوفاء التي أهداها نجم السهرة الى روح المطرب والملحن الليبي محمد حسن.
لم تتوقف مفاجآت رؤوف ماهر عند هذا الحدّ، بل فاجأ الجميع بإهدائه أغنية خاصة الى كل المطلقات، مرّر من خلالها رسالة إنسانية مفادها أن المرأة المطلقة ليست بالمذنبة أو السيئة، بل هي امرأة لم يحالفها الحظ لا غير ولا بدّ للمجتمع أن يغيّر نظرته تجاهها.
وبتأثر كبير أسر رؤوف ماهر الجمهور بغنائه موالا عن الأب، قبل أن يفاجئه بأداء كوكتال جزائري، تضمن أجمل أغاني الراي، وهي خطوة جريئة تحسب لصاحب "صنديدة"، كما أهدى رؤوف ماهر كل الحضور أغنية " الخوت"، مؤكدا أن النجاح الجماهيري الذي لاقاه عرض "صنديدة" على ركح قرطاج يعدّ أكبر هدية تلقاها وأكبر فوز له.
ولأن الجمهور كان متشوقا لسماعها خير رؤوف ماهر إسدال الستار على سهرته القرطاجنية بأداء الأغنية الأكثر انتشارا مؤخرا وهي "عروبية" طالبا من الجمهور إشعال أضواء هواتفهم ليتحول المسرح الروماني الى لؤلؤة مضيئة، في مشهد يلخص نجاح عرض "صنديدة" جماهيريا وفنيا.
لن نطيل الحديث لأن بعض الكلمات قد تعجز عن وصف سهرة من أجمل سهرات الدورة 57 لمهرجان قرطاج الدولي دون مبالغة فرؤوف ماهر ذلك الفنان الذي اختار لنفسه طريقا خاصا سلكه بثبات قدم درسا في الفن والموسيقى المحملة بعديد الرسائل، موسيقى الوطن والإنسان والحب والفرح.