في عرض "الزيارة" الذي قٌدّم مساء الثلاثاء 25 جويلية ضمن برمجة الدورة السابعة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي كان كلّ شيء جاهز ليعيش الجمهور تلك الحالة الوجدانية الفريدة مع مجموعة تجاوزت عناصرها المائة بين منشدين وموسيقيين وراقصين وحاملي أعلام وآخرون لم نشاهدهم على الركح ولكننا استدلّينا على وجودهم من خلال تصميم تلك المشهديّة المتكاملة في التشكّل السينوغرافي وتوزيع متمّماته بدقة فنية مدروسة تتماشى مع سياق العرض وخصوصية لوحاته المتعاقبة، كل شيء جاهز ليقدّم سامي اللجمي عرضه الثامن بعد العشرين أمام جمهور أغلبه شاهد "الزيارة" أكثر من مرّة وفي أكثر من فضاء ومع كلّ عرض يكتشف التطوّر التدريجي واللمسات العصرية التي يضفيها المايسترو على هذا المشروع الفني الذي أكّد أنه يحمل ديناميكية داخلية تطلّبت بحثا طويلا ودراسة تقنية لتجديد الصورة العامة حتّى لا يموت "وما لا يتجدّد يموت بالضرورة".
هكذا جاءت "الزيارة" مساء الثلاثاء 25 جويلة بتصوّر جديد وتوزيع معاصر لم يمسّ الجوهر ولم يشوّه ذلك المخزون التراثي الصوفي الذي اشتغل عليه اللجمي منذ 2013 فالمنطوق (نصوص الأغاني) هو نفسه لكن المتغيّر هو الصوت وطريقة الأداء والمناخ العام للعرض...
بالتهليل والتكبير يسحب صانع "الزيارة" جمهور قرطاج لمربّع الإنشاد الصوفي شيئا فشيئا ومن الجهات الأربع للركح تنبعث رائحة البخور وتضاء الشموع وترفع الأعلام، تتعالى إيقاعات الدفوف وتهزج الحناجر إيذانا ببدء الزيارة من خلال "حزب البحر" و"صلاة الفاتح" و"نا جيت زاير" و"يا اهل الله قلبي بغاكم" و"عالباب دارك"... اكتملت العناصر لتلغي تلك المسافة بين الركح والمدارج، بين صنّاع العرض والجمهور بحيث صار الكلّ واحدا لا يتجزّأ مما جعل من الفرجة شيئا عصيّا على الوصف...
يسير العرض بنسق هادئ يرتفع تدريجيّا ليبلغ ذروته مع الأناشيد والموسيقى وحركة الراقصين، ثم يعود من جديد للريتم الهادئ من خلال الذكّر المصاحب لإيقاع الكفوف قبل أن يتصاعد النسق من جديد وكأنّ الكلّ داخل حلقة في مزار كبير... لقد عمد مصمم العرض إلى تقسيم الركح بشكل فنّي دقيق ممّا يسمح للراقصين وناقري الدفوف ورافعي الأعلام بالخروج من الكواليس والعودة إليها بسلاسة ويسر دون تشويه المشهد البصري أو تشتيت الانتباه، ومما زاد من عناصر الفرجة خروج مجموعات الراقصين والراقصات وحاملي صواني الشمع من جانبي الركح صاعدين إليه في بعض اللوحات التي تحيل على قدوم الزوار إلى المقام على غرار مشهد العروس "المجللة" بالسنجق مع قريباتها الفتيات قبل ليلة الحنة للتبرّك بين يدي السيدة المنوبية... وغيرها من اللوحات التي تحيي العادات المتوارثة في المواسم والأفراح.
منير الطرودي وأيمن بن عطية وإبراهيم الرياحي وأسماء أخرى أدت (منفردة) مجموعة من الأناشيد الصوفية التي تتطلّب مساحات صوتية واسعة تجتمع فيها القوة والعذوبة "حب النبي زين الصفات" و"راكب الحمراء" و"بالك تنساني يا بنيّت جمّال" و"نغارة"... وأغنيات أخرى تجاوزت الأربعين تفاعل معها الجمهور على امتداد العرض بالرقص المنسجم مع الحالة والزغاريد.
الحدث في عرض "الزيارة" الثامن والعشرين صنعه التوزيع الجديد للأغاني باعتماد آلات موسيقية عصرية كالأورغ والباتري وألحان يمتزج فيها الجاز بالفلامنكو مع الطبوع التونسية والشرقية وصنعته السينوغرافيا بكل عناصرها ومتماتها كما صنعه خاصة الحضور النسوي متمثلا في روضة بن عبد الله كأول صوت نسائي يقتحم حلقة رجال الزيارة التي كانت على امتداد عشر سنوات حكرا عليهم، روضة غنّت "على الباب دارك" ودخلت الدار من الباب الكبير لتثبت جدارتها بالانتماء لهذا العالم الصوفي الرحب وهو ما أكّده سامي اللجمي خلال اللقاء الذي جمعه بالإعلاميين عقب العرض حيث ذكر أنه كان يبحث عن صوت نسائي بمقاييس معيّنة وكان الأمر أشبه بمعادلة رياضية صعبة لبلوغ توليفة منسجمة مع الأصوات الرجالية ولحسن الحظ وجد في صوت روضة "المليان" ما يبحث عنه واشتغل عليه كثيرا لبلوغ النتيجة التي أقنعته في النهاية، وفي نفس السياق أفادت روضة بن عبد الله أنها كانت تنظر إلى "الزيارة" من الخارج كمشروع فني وعرض ناجح بكل المقاييس فهو يقدم التراث بأسلوب محترم يجمع بين التراث وروح العصر بجمل موسيقية مختلفة "وبمشاركتي في هذا العرض عشت حالة خاصة من التجلي" وتمنّت مواصلة التجربة مع هذا الفريق المتميز والمتكامل.
خلال اللقاء الصحفي بالمركز الإعلامي حضر محمد بوذينة منتج الزيارة وسامي اللجمي مخرجها وتحدّثا عن مشروع جديد قد يتم تنفيذه خارج تونس سنة 2025 عندما تتوفر إمكانيات الإنتاج وأكدا على أن "الزيارة" بكل نسخها منذ انطلاقتها في 2013 نُفّذت جميعها بتمويلات ذاتية، كما تحدثا عن جولة فنية لعرض "الزيارة" في مختلف التظاهرات الثقافية والفنية التونسية خلال هذه الصائفة.