في تمام العاشرة ليلا ارتفع صوت النشيد الوطني الذي وقف له الجمهور "خشوعا"، ولعل ما زاد في جمالية المشهد الديكور الجديد، ديكور معاصر عبارة عن أعمدة مضيئة لم تفقد المسرح الأثري رونقه وطابعه الأثري.
حفل افتتاح كان بمثابة "محفل" تجسيما لذات الاسم الذي أطلقه عليه مخرجه الفنان فاضل الجزيري، الذي ما انفك منذ عرض "النوبة" مطلع تسعينات القرن الماضي، يبهر جمهوره ويلبي ذائقته الفنية ويصالح الأجيال الجديدة مع نبض أجدادهم، وهو ما سعى الى تحقيقه الجزيري في عرضه "محفل" دون وقوعه في فخّ استنساخ ما سبق من أعماله .
عرض فرجوي بالأساس أعاد فيه الجزيري بناء طقوس الأعراس البدويّة في مناطق مختلفة من البلاد التونسية مع تثمين هذا التراث اللامادي برؤية معاصرة، راوح فيها بين آلات تقليدية وأخرى معاصرة مستندا على تجربته وخبرته في الكتابة المسرحية والتوضيب الركحي والسيوغرافيا وهو ما لامسناه في قدرته على التحكم وإدارة قرابة 120 عنصرا بين عازفين ومنشدين وراقصين ومغنّين حيث وزع ركحه بطريقة قد تبدو في ظاهرها فوضوية لكنها في باطنها تعكس تفاصيل "المحفل" التونسي الذي لا يخلو من فوضى مستساغة.
ففي ركح "محفل" الجزيري شاهدنا 30 عنصرا من الكورال الوطني وكورال أوبرا تونس بقيادة هيثم الحذيري، 10 راقصين قدموا لوحات مختلفة بقيادة هارون العياري و24 عازفا بقيادة نصر الدين الشبلي، وعلى ذات الركح شاهدنا الطبلة والدربوكة والبندير والزكرة والمزود والناي والقصبة الى جانب البيانو والغيتار والغيتار باس والباتري والكمنجة، أنماط فنية مختلفة وإيقاعات متنوعة راوحت بين الجربي، الفزاني، العلاَجي، الغيطة، السعداوي، الدرازي، بوزيقة، الشاوي، المربع، بو نوارة، الروك، البلوز، الجاز وغيرها
ولأن "المحفل" لا يخلو من خيالة وفرسان، أحضر فاضل الجزيري الى المسرح الروماني بقرطاج الفارس وحصانه في مشهد فرجوي حمل عنوان "شطحة الفارس سعداوي" ، وتماهيا مع تيمة العرض وهي العرس التونسي قدم الفنان محمد علي شبيل وصلة بعنوان "الجحفة".
تواصل "محفل" الجزيري مع الفنان نضال اليحياوي الذي أطل كعادته بزيه المميّز وأسلوبه الخاص، وأدى أغنية الراحلة صليحة "ساق نجعك" التي تفاعل معها جمهور قرطاج رقصا وغناء ليختم وصلته بأغنية "العين السودة" وهي من التراث التونسي، ولم يقتصر عرض "محفل" على الغناء فحسب بل تخللته عديد اللوحات الراقصة التي تتماشى والنمط الموسيقي .
ومن تراث الشمال الغربي وتحديدا الكاف تميز الفنان أنيس علوي بأداء أغنية "هزّي حرامك"، ليستلم عنه سامي الرزقي المشعل ويحط الرحال بجزيرة الأحلام جربة ويغني "واشي واشي".
في عرض "محفل اختار الجزيري تكريم الفنان الراحل اسماعيل الحطاب من خلال أغنيتي "بين الوديان " و "دزيتيلي " وهنا نشير الى أن اسماعيل الحطاب شارك ثلّة من الفنانين الشعبيين في عرض النوبة" على ركح مهرجان قرطاج سنة 1991 قبل أن يتوفى سنة 1994 .
تواصل العرض مع وصلات غنائية من التراث التونسي وأجواء الأعراس حيث أدى الفنان سامي كامل أغنية " مرّ فراقك" ومحمد علي شبيل " نحلم بخيالك" وفتحي الماجري "الليلة المحفل يعجبني" وأسامة النابلي "اركزي عالرملة" و هيثم الحذيري "سيدي عبد القادر، وبأسلوبه المتميز وحضوره الركحي وصوته القوي شدّ علي الجزيري جمهور قرطاج بأدائه لأغنية "بجاه الله"، قبل أن تأسره الفنانة آمنة الجزيري بأداء أغنية "زينة" ولعل ما زاد في جمال وصلتها الغنائية زيها التقليدي ( لحرام) وعزفها على آلة الطبلة حيث تفاعل معها الحضور بشكل كبير.
من مفاجآت "محفل" الجزيري مشاركة الفنان نور شيبة ، الذي أطل كعادته مصحوبا بعكازه، تحت وابل من التصفيق الحار من جمهوره الذي حياه نور بدوره وغنى له "يا حب شبيك" و"برا روّح" بتوزيع غربي .
وعلى الايقاع "الشاوي" ألهبت فوزية الكافية حماس الجمهور، قبل أن يقتحم الفارس وحصانه مجددا مسرح قرطاج ويعلنا عن نهاية "محفل".
في عرض "محفل"، استحضر الفنان فاضل الجزيري أوجها من ذاكرتنا الفردية والجماعية، وغاص في طقوس الأعراس البدويّة مستلهما التراث الموسيقي الشعبي في مشهدية مختلفة قوامها العادات ولغتها الموسيقى.