ما الأم سوى امرأة ساذجة، مهمومة، بلا حول ولا قوة، هكذا اعتادت الممثلات اللائي اشتهرن بأداء دور الأم، الخروج بـ «إسطمبة» متشابهة، ليربطن بين «الأمومة» وحالة عامة من انعدام الفعالية، والبؤس، تمثيل جيد مع رسم فقير للشخصية، من أمينة لرزق لكريمة مختار، الأم كائن يبعث في أوقات كثيرة على البكاء، لا يضحك، مريض في الغالب، وكثيراً ما يموت في نهاية العمل ليثير في قلوب المشاهدين الكثير من الحزن والضيق «ماما نونة» مثال في «يتربى في عزو».
نادراً ما اقتربت شخصية الأم من تلك التي توجد على الأرض في الواقع، تلك التي تعرف جيداً كل شيء مهما بدت لك ساذجة، تدير وتؤثر وينطبق عليها المثل الشعبي الخاص جداً «يا كتكوت إيه نساك ماتعملش ديك على اللي فقساك»، حالة عامة من الأضداد القوية جداً والمميزة أيضاً استطاعت إنعام سالوسة أن تقدمها كـ «أم» في أعمالها المختلفة، تلخصها في جملة بديعة ألقتها كما يجب أن تكون في الحرب العالمية الثالثة «أنا ماما يلا!».
لم تقل «مش لاعبة»
كان لي صديقة عزيزة قررت أن تترك وظيفتها، لأنها لم تلق تقديراً يذكر، قالت لي «مش هافضل اشتغل طول عمري ومحدش حاسس باللي بعمله» كانت صديقتي محبطة وغاضبة جداً، لم تنتقل إلى وظيفة أخرى، لأنها كما قالت لي «هيعاملوني كأني لسه جديدة» مسألة لم تحتملها على كرامتها أو نفسها «كل السنين دي راحت بلاش!». أتذكر وجه صديقتي الغاضب وأنا أشاهد إنعام سالوسة في عمل بعد آخر، أتعمد أن أتابع الكواليس لأرى السيدة التي تواصل عملها من العام 1964 وحتى الآن 55 عاماً، بدأتها كـ «معلمة» في مجالها، حين ساعدت سعاد حسني على تعلم فن الإلقاء كي تتمكن من أداء دورها في فيلمها الأول حسن ونعيمة. خبرة كفيلة بأن تصيب صاحبها بـ «النرجسية» والشعور بالعظمة، لكن نفساً متواضعة جداً هناك، تجعلها محبوبة جداً في نطاق الكواليس، أكثر من الشاشة نفسها، فمثلاً داخل كواليس مسلسل «طلقة حظ» قامت أيتن عامر بتصوير مقطع فيديو لتروي فيه إنعام سالوسة موقفاً «مضحكاً» حيث ذهبت الفنانة القديرة إلى كرفان الفنانة هبة مجدي، لكن الأخيرة لم تقدم لها مشروباً لتتناوله، فقامت هي بطلب المشروب ودفع ثمنه لكلتيهما، موقف تحول إلى طرفة وسط الممثلين، كانت سالوسة ترويه بجدية تثير ضحك من حولها. أدوار صغيرة، تبسط في الحديث، والتعامل، لطف وخفة دم، والأهم «لا شروط» هكذا تخرج من الدائرة الضيقة التي تخنق أكثر الممثلين «ترتيب الاسم»، «عدد المشاهد»، «حجم الدور»، بالنسبة لإنعام سالوسة هي تعرف جيداً جداً أن الدور المميز لا يتأثر بهذا كله، الأمر بالكامل يخضع للمثل الشهير «قل من الندر وأوفي» أما هي فتفي تماما بالدور وتتحول إلى أيقونة مع كل عمل.
«التقدير خسرها كتير»
الكثير من الصور الفوتوغرافية في الكواليس بصحبة الكومبارس وشخصيات مثل «فاطمة كشري» يقدمها أصحابها بفخر عبر صفحاتهم بمواقع التواصل الاجتماعي و «يوتيوب» باعتبارهم قد نالوا أخيراً صورة مع شخص عظيم. تقدير شديد لم تحظ بمثله من منظمي المهرجانات أو أي جهة تكريم داخل الدولة باستثناء المركز الكاثوليكي الذي قام بتكريمها مع الفنان رشوان توفيق، وليلى طاهر في العام الماضي، ليصبح التكريم الوحيد الذي نالته في حياتها حتى الآن! مع ذلك لا تلتفت السيدة الثمانينية للتقدير المنعدم تقريباً، هي تعلم قدر نفسها جيداً لذا تواصل العمل بكثير من الحماس والالتزام والحب الذي يبدو واضحاً في جودة الأداء وقوته. «شكراً إنعام سالوسة» عنوان لهاشتاغ انطلق قبل شهور اتفق المشاركون فيه على أن سالوسة وإن لم تحظ بتكريم على أرض الواقع فهي تستحقه في عالمهم الافتراضي حيث الجميع يحبها حقاً ويقدرها.
«أقوال سالوسة المأثورة»
جمل قصيرة، في أدوار صغيرة، لكنها لا تذهب عن بال المشاهد، لا يلبث يجد في أدائها خير تعبير عن مواقف الحياة المختلفة التي يمر بها، لتتحول من مجرد جمل في عمل فني إلى «أقوال سالوسة المأثورة». 28 عاماً مرت على العرض الأول لمسلسل ذئاب الجبل، لكن جملتها الشهيرة «يا مرك يا نعمة» مازالت تتكرر بشكل يومي تارة في صورة «كوميك» وتارة عبر مشاركة المقطع الأصلي والذي تم اقتصاصه لتسهيل مشاركته، وتارة عبر الترديد الشفوي. الكلمة الأكثر رواجاً الآن «يا لهووووووووي» الخاصة بها، تتمثلها الأمهات أثناء المذاكرة، والموظفون في معاناتهم اليومية، وغيرها عشرات المواقف، على المنوال ذاته تتكرر الجملة الخاصة بها مثل «إن شاء الله وألف ألف مبروك» من فيلم عايز حقي، و «أنا ماما يلا» من فيلم الحرب العالمية الثالثة.
«كل ما تكبر تحلى»
أكثر من 300 عمل بين المسرح والإذاعة والسينما، للممثلة التي ولدت في دمياط في 15 ديسمبر/كانون الأول عام 1939، زوجة الأم الطيبة «وصيفة» في ليالي الحلمية لا تفوت في الواقع مناسبة، خاصة الأحداث الحزينة، عكس كثيرين، في الواقع هي «امرأة وفية» تراها في مقدمة الحضور كما حدث في عزاء محمد خان أو محمد وفيق، حيث احتدت في عزاء الأخير على تهافت المصورين لتشيح بالكاميرا الخاصة بموقع مصراوي مرددة «عيب». لم تحصل سالوسة على البطولة المطلقة أبداً، لكن لم يبد أن هذا أثر ولو قليلاً على اجتهادها، حيث تواصل التأكيد «أنا مقتدرة أنا هنا».
ليست دائماً طيبة
ليست دائماً طيبة وساذجة أو حتى كوميدية، حيث استطاعت سالوسة في مسلسل «امرأة من الصعيد الجواني» أن تقدم دور الشخصية الهيستيرية التي تقوم بنقل الكلام والإضافة والحذف منه، بسبب كلماتها تندلع المشكلات بين الناس وتنخرب البيوت ويقع الطلاق، شخصية هيستيرية شريرة تحاول جذب الاهتمام بكل الطرق. هي أيضاً «مودمازيل نفيسة» الحادة جداً الصارمة في تعاملاتها، التي لا تؤدي مهام أبعد من وظيفتها كسكرتيرة ولا تقبل أن يناديها أحدهم بـ «مدام» بينما هي «آنسة». مشخصاتية بامتياز، استطاعت تقديم شخصية «جولدا مائير» في مسلسل السقوط في بئر السبع باقتدار، وأكدت أن حسها الكوميدي الذي يخرج منها دون مجهود يذكر منها ليس دائماً المتحكم في آدائها واختياراتها فهي حين تريد أن تبدو «شريرة» أو «صارمة» تقدم هذا بذات الاقتدار.
شهد لها «محيي إسماعيل»!
على الرغم من شهرته بعدم الحديث عن أي فنان سواه، فإن محيي إسماعيل شهد لـ «إنعام» سالوسة بالتفوق الذي جعلها المختارة من أجل تدريب سعاد حسني فن الإلقاء الصوتي في فيلمها الأول حسن ونعيمة. لم تكن الشهادة الوحيدة في حقها فخالد دياب، مخرج فيلم طلق صناعي لم يجد كلمات يصفها بها سوى «سكر، صادقة صدق رهيب، حالة ذهنية لشابة عمرها 20 سنة، بتقدم ضحك من قلب الجد» كان هذا في وصف المشهد الوحيد الذي قدمته في الفيلم، مشهد واحد فقط! في الواقع تواصل إنعام سالوسة تقديم الدروس لي عبر حياتها، فهي لم تعتمد على زوجها المخرج سمير العصفوري، بأي شكل، نظرة واحدة سريعة على تاريخهما تجد أن الأعمال المتقاطعة تكاد تنعدم، فهي في الواقع امرأة تواصل التأكيد طوال 55 عاماً أن المرء يجب أن يعمل في المقام الأول لنفسه ولمتعته الخاصة، حتى وإن غاب التقدير والاهتمام، لا يهم، ما يهم حقاً هو المواصلة والإتقان.