رغم عرضها عشرات المرات أمام الجمهور ورغم مرور حوالي عشر سنوات على نسختها الأولى ماتزال "الزيارة" تستقطب أعدادا كثيرة من عشاق الفن الصوفي بما فيه من ذكر وتواشيح وأناشيد دينية وموسيقى ورقصات خاصة، والدليل على ذلك تلك الأعداد الغفيرة التي توافدت على المسرح الروماني بقرطاج مساء الخميس 4 أوت منذ ساعات المساء الأولى للظفر بمكان قريب يمكنها من متابعة العرض بكلّ تفاصيله.
دقت الساعة العاشرة مساء، ولم يبق مكان شاغر على الكراسي والمدرجات، جمهور من كلّ الأعمار استعد تمام الاستعداد لمواكبة العرض حتى أن الكثير من الفتيات والنساء تعمّدن ارتداء بعض الأزياء التقليدية ليكنّ في صلب المشهد أو الحالة الروحانية التي يأخذ إليها العرض...
بدأت "الزيارة" بتسبيح يخرج من الكواليس عقبه منشد دخل الركح مهلّلا مكبّرا "نا جيت زاير" وممهّدا لحوالي مائة عنصر من المنشدين والعازفين والراقصين وحاملي الأعلام والبخور... ليتخذوا أماكنهم على الركح الروماني بطريقة منظّمة ومدروسة توفّرت على أبعاد جمالية، أغان صوفية وتواشيح دينية ومناجاة للخالق ومدح للرسول الكريم والصلاة عليه وذكر لأولياء الله الصالحين ومآثرهم... جولة روحانية خالصة تنطلق بإيقاع هادئ ثم على وقع الدفوف وتصفيق الأكفّ يرتفع نسقها تدريجيا وتُسمع زغاريد النسوة من كل مكان وتنتشر معها رائحة البخور فيتحوّل الفضاء على اتساعه لما يشبه المزار او حلقة من حلقات الذكر يندمج فيها الكل في انسجام تام.
"الزيارة" ليست فقط عرضا للإنشاد الصوفي بل هو طقس كامل من الطقوس الروحانية التي يقع تحت تأثيرها الصغار والكبار، النساء والرجال... يكفي ان تلقي نظرة على الجمهور لتدرك أن سامي اللجمي سحرهم بكل تلك الألوان والأضواء والموسيقى التي امتزج فيها الجاز والفلامنكو بالنوبات الصوفية والتقت فيها الدفوف بالجيتار والأورغ والباتري في انسجام وتناغم...
" ناس المقام" و"جيناكم زيار" و"نمدح الأقطاب" و"سيدي بن عيسى" و"لا أله إلا الله" و"يا طير يا طيّار" و"الله يا لطيف الطف" و"هللوا وكبروا تكبيرا" و"يا زاير مكة والمدينة" و"راكب عالحمرا" و"يا بنيّت جمّال" و"المنوبية" و"يا سيدة يا نغّارة" و"أم الزين الجمالية"...
وأناشيد أخرى كثيرة وابتهالات تخللتها لوحات لها مدلولها في هذه الأجواء الروحانية كصواني الشموع التي مرّ بها الرجال من أمام الجمهور ليصعدوا بها الركح وأطباق المشموم بأيادي الفتيات باللباس التقليدي توزّعن الياسمين والفل على المنشدين وأخريات يحملن القفاف بهدايا التبرّك ملتحفات بالسفساري ومشهد الختان الذي عقبه تكسير قلة الفواكه الجافة والحلوى، والرجل الذي يخترق الصفوف بيده "المرشّ" يرشّ ماء الزهر وآخر يرقص على إحدى النوبات حتى يغمى عليه فيخرج محمولا على الأعناق فيما نعبّر عنه "بالتخميرة"...
لم تهدأ الحركة على ركح مسرح قرطاج لأكثر من ساعتين تتابعها الأعين شغوفة بذلك الإخراج الآسر وتلك الموسيقى المتلونة تحت إيقاع الضوء، وقوة أصوات المنشدين ونقاءها... كلّ العناصر مجتمعة ساهمت في تشكيل مشهديّة ركحيّة متعددة الدلالات بحيث لا يمكن الاستغناء عن أي منها... فكلّها أجزاء صنعت هذا الكلّ المتجانس والطقس الصوفي الجميل، "الزيارة" التي اقترحتها الدورة السادسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي مساء الخميس 4 اوت على جمهورها كشفت ثراء المخزون التراثي الصوفي التونسي الذي يرتفع بالروح ويسمو بالأنفس لتحلق في عوالم نقيّة تنشد السلام والتطهّر كما أكّدت إمكانية تطويع ذلك المخزون وتطويره وتقديمه في إخراج يتوفّر على أبعاد جمالية معاصرة دون المساس بجوهره (المنطوق/النص) الذي حرص سامي اللجمي أن يكون كما هو دون زيادة أو نقصان.